سيادة فرنسا في مواجهة التسويق للسلاح الأمريكي

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
سيادة فرنسا في مواجهة التسويق للسلاح الأمريكي, اليوم الخميس 24 يوليو 2025 09:19 صباحاً


ما زال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتصدر المشهد السياسي الدولي بمواقف تتعارض مع الإدارة الأمريكية، وتعلن التحدي لها بشكل مباشر وغير مباشر، لكن الموقف الأخير للرئيس الفرنسي بدا استثنائيا في ظل تصاعد التوترات في شرق القارة الأوروبية، إذ أعلنت باريس بوضوح تمنعها عن الانضمام إلى المبادرة الأوروبية المدعومة من حلف شمال الأطلسي والتي تهدف إلى تمويل شحنات الأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا، على عكس ألمانيا التي سارعت إلى تبني المقترح ودعمه.

هذا الرفض الفرنسي ليس مجرد تحفظ عابر، بل يعكس توجها استراتيجيا أعمق، تُعيد فيه فرنسا صياغة موقعها الجيوسياسي وأولوياتها الدفاعية في خضم مرحلة وصفها ماكرون قبل أسبوع بأنها «زمن اضطرابات»، وذلك خلال خطابه أمام القوات المسلحة الفرنسية بمناسبة اليوم الوطني لبلاده، باعثا في الوقت ذاته رسائل تعكس هذا التوجه الاستراتيجي عندما دعا الأوروبيين إلى ضمان أمنهم بأنفسهم، وبناء عمود أوروبي حقيقي للناتو في ظل حالة اللايقين التي تفرضها السياسات الأمريكية.

وبالنظر إلى المواقف الفرنسية المعارضة للقرارات والمشاريع الأمريكية منذ بداية رئاسة دونالد ترامب للبيت الأبيض الآخذة في التزايد، يبدو أن الرئيس الفرنسي يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى إعادة التموضع السيادي لفرنسا التي لا يمكن لها وحدها تحقيق هذا التموضع دون دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، ففرنسا، كقوة نووية وعضو دائم في مجلس الأمن، ترفض أن تكون مجرد تابع في تحالف عسكري يدار بقرارات أمريكية وتمويل ذلك بأموال أوروبية لصالح صناعة السلاح الأمريكية، لكن تحتاج الدول الأوروبية بجانبها في قرارات عالمية كهذه.

وهنا يبرز سؤال مهم حول قدرة فرنسا على الاستمرار في هذا التوجه في ظل ما تواجهه الحكومة من صعوبات ضخمة في تلبية التزاماتها ضمن ميزانية عام 2026، حيث يتعين عليها توفير ما يقارب 40 مليار يورو، في وقت تتصاعد فيه نفقات الدفاع ويزداد الضغط على الموازنة العامة بفعل سياسات خفض العجز والدين العام، لكن يبدو أن باريس اختارت بين الإنفاق العسكري والضغوط الاقتصادية التركيز على تطوير صناعتها الدفاعية المحلية بدلا من تمويل شراء الأسلحة من الخارج، وتحديدا من الولايات المتحدة.

يعكس ذلك تصريحات ماكرون ومواقفه خلال السنوات الأخيرة، التي تكشف أن المسألة أعمق من مجرد حسابات مالية، فهو لا يخفي شكوكه تجاه استمرارية الاستراتيجية «الترامبية» للولايات المتحدة، لا سيما أن دونالد ترامب لم يخفِ يوما ازدراءه لحلف الناتو ولا تردده في استخدام الملف الأوكراني كورقة مساومة، إلى جانب انتقاده الدائم لمساهمة الدول الأوروبية في الناتو، وتهديده بالانسحاب منه، فضلا عن دخوله في سجالات مباشرة مع ماكرون بشأن ملفات عديدة من بينها إيران والتجارة الدولية.

وبالرغم من أن دعوة ماكرون إلى بناء منظومة دفاع أوروبية مستقلة، تعد ضرورة استراتيجية لأوروبا كلها، فإن فرنسا ربما تسلك هذا الطريق وحدها في ظل توجه ألمانيا وبريطانيا إلى مقاربة مع الإدارة الأمريكية، إذ وافقت برلين على تمويل شحنات السلاح الأمريكية، على اعتبار أن دعم أوكرانيا يجب أن يتم بكل الوسائل المتاحة، وهو ما يعكس التزاما استراتيجيا أقوى من قبل برلين تجاه التحالف الأمريكي، لكن هذا الأمر يفتح بابا للتساؤل: هل سيؤدي هذا الاختلاف إلى انقسام استراتيجي أوروبي طويل الأمد؟ وهل تقود باريس بذلك جناحا أكثر استقلالية داخل أوروبا؟

إن فرنسا، من جهتها، تسعى لتعزيز صناعتها الدفاعية وتسليح أوكرانيا بأسلحة تصنع في أوروبا، وهو توجه قد يرضي بعض الشركاء الأوروبيين الذين يخشون التبعية للولايات المتحدة، ولكنه قد يتسبب أيضا في صدام بين الدول الأوروبية بشأن الأولويات الدفاعية المشتركة.

كما أن استمرار الخلاف الأوروبي حول آلية تسليح أوكرانيا، لا سيما ما يتعلق بمصدر السلاح وتمويله، ينعكس بشكل مباشر على مسار الحرب، فبينما تسعى كييف لتلقي أكبر كمية ممكنة من الدعم العسكري الغربي، تجد نفسها محاصرة بتردد بعض الحلفاء الذين لا يرغبون في تحويل أوكرانيا إلى ساحة لتصريف فائض السلاح الأمريكي أو في تقويض السيادة الأوروبية لصالح مصانع الأسلحة في واشنطن.

وفي ظل اتساع الفجوة بين فرنسا والدول الأخرى، قد تضعف الجبهة الغربية الداعمة لأوكرانيا، مما يمنح روسيا هامشا أكبر للمناورة الميدانية والسياسية، فيما قد تُتهم فرنسا بالبرود أو بالانعزالية، لكن الحقيقة أن موقفها يعبر عن قلق مشروع، ألا وهو كيف يمكن لأوروبا أن تبقى قوية إذا كانت تعتمد على غيرها في أمنها؟ وكيف يمكن أن تُهاب إذا لم تُنتج سلاحها وتُموّل معاركها بنفسها؟ وهذا ما أجاب عنه ماكرون بنفسه عندما قال «لكي تُهاب، يجب أن تكون قويا».

إن رفض فرنسا تمويل شحنات الأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا لا يعد موقفا اقتصاديا ظرفيا، بل هو رسالة استراتيجية تعكس تحولات عميقة في رؤية باريس لمكانتها ضمن النظام الدولي، ولطبيعة علاقتها مع الولايات المتحدة، كما أنها تمثل محاولة فرنسية لاستعادة المبادرة، وتأسيس مشروع أوروبي دفاعي مستقل، بعد أن تكررت خيبات الأمل في الإدارة الأمريكية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق