فخ الكذب والقابلية للتصديق في زمن التدفق المعلوماتي

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فخ الكذب والقابلية للتصديق في زمن التدفق المعلوماتي, اليوم الاثنين 28 يوليو 2025 12:10 صباحاً

في عصر تتدفق فيه المعلومات بوتيرة متسارعة، أصبح الكذب وسيلة سهلة للتلاعب بالعقول والمشاعر. يتعرض الأفراد يوميا لجرعات هائلة من المعلومات، مما يجعل من الصعب عليهم التمييز بين الحقيقة والخيال. هذه الظاهرة تتجاوز مجرد تداول الأخبار الكاذبة، لتشمل قبول الأكاذيب كمادة سهلة للتصديق، مما يعكس تحولا مقلقا في سلوكيات الناس ومعتقداتهم. في هذا المقال، نستكشف كيف أصبحت القابلية للتصديق فخا يتربص بالمجتمعات، وكيف يمكننا مواجهة هذا التحدي في عالم مليء بالزيف والتضليل.

استكمالا للحديث عن الكذب المستشري هذه الأيام على المشهد الإعلامي، خاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو العالم الافتراضي، بنسب فاضحة وكاشفة على مستوى العالم أجمع، ولكن في العالم الثالث أو ربما العالم العربي، بنسب أشد وأمر. عادة ما يُفترض عدم مصداقية الكذب أو حتى الشك فيه، ليس فقط لكونه محتوى كاذبا أو خادعا ومجهول المصدر، أو على الأقل مشكوكا في مصدره، ولكن الأسوأ والأضر من ذلك هو القابلية العظيمة المستشرية أكثر في التعرض له ثم قبوله واستحسانه، ومن ثم تصديقه واعتقاد صحته والتصرف وفقا لذلك.

ولعل من المفارقات العجيبة الغريبة أنه عندما كتب المؤلف الكبير الأستاذ إحسان عبد القدوس، رحمه الله، قصته الشهيرة «أنا لا أكذب ولكن أتجّمل» ضمن مجموعة قصصية بعنوان «الهزيمة اسمها فاطمة» في عام 1968، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي بطله الفنان أحمد زكي رحمه الله، والفنانة آثار الحكيم أطال الله في عمرها، في عام 1981، لم يرد بخلد المؤلف ولا حتى الجماهير القارئة للقصة أو المشاهدة للفيلم قبول فكرة الكذب أصلا بشتى أنواعه، حتى المزيف منه، ولو تحت ما يرد من باب التجمل أو التلطيف أو الترطيب لأي حقيقة مرة.

كما لم يرد بخلد الغالبية العظمى من البشر، إلى وقت قريب، أن الكذب قد يصبح مادة سهلة مقبولة للتلقي والهضم، بل والتصديق، بعد أن أصبح له كل هذا الرواج الحادث على الواقع الافتراضي تحديدا. كما أن التجمل بشتى أنواع الزيف قد يصبح للأسف الأشد سيدا للمواقف والأحداث والأزمات، وقد يرجع ذلك إلى أن الغالبية العظمى من البشر قد تربت على افتراض الصدق، وأن الصدق نجاة من أي مشكلة أو أزمة أو حتى مصيبة، وليس العكس.

فما بالنا بمن لم يرَ أو يُرَ أصلا في عالمنا الافتراضي الجديد! فقد أصبح العالم أجمع على مشارف هذا العصر الافتراضي الآخذ في التمادي والتمدد، وأقل ما يمكن وصفه بكونه غريبا أو مضطربا أو متغير الأطوار عن السائد والمألوف والمعروف فيما سبق من واقعية ومصداقية وحقيقة. فقد أصبح الكذب ميزة يتميز بها علية القوم، وربما بعض كبار المسؤولين، بكل تبجح بترديد معلومات ملفقة أبعد ما تكون عن الحقيقة والواقع والصواب.

لقد أصبحنا وعايشنا أصحاب مناصب عليا ونفوذ ومال، ربما أعلى، يفترض أنهم مؤسسات أو شركات كبرى، أو حتى مؤخرا بعض الدول التي يُطلق عليها عظمى، يتباهون بالأكاذيب والأقوال المضللة والأرقام المغلوطة عن قصد أو غير قصد، ودون أدنى حرج أو خجل، ولكن بكل عزم وتأكيد، وعن سبق إصرار وترصد، ودون أدنى درجات الخجل للاكتشاف أو الانكشاف، بل في تحدٍ وتعالٍ وتبجح تحت مبدأ وقانون التحدي لمن له القدرة على المحاسبة أو المراجعة، أو حتى ذكر ما أقول بسوء أو نقيصة، (يبقى يقابلني) أو ربما يعاقب عقابا عسيرا.

بلطجة فكرية وتدنيس أخلاقي واستباحة البجاحة بكل وقاحة واستباقية وتعند في عدم الصدق ومجافاة الحقيقة وتجنب المصداقية. وقد يكون الأمر هينا بالنسبة للكاذبين أنفسهم، إن لم يلقوا حسابهم العسير وكشف سترهم في الدنيا، فإن الله أعلم بهم يتولاهم في الدنيا والآخرة.

ولكن الطامة الكبرى في القابلية المتزايدة بشكل متفاقم في تصديق الكذب، ليس فقط من قبل عموم الناس والجماهير الغفيرة أو الشعوبيين بالآلاف، بل بالملايين. ومما يزيد الطين بلة أن يمتد ذلك التصديق لكثرة ليست بالقليلة من المتعلمين والمثقفين أو من يُطلق عليهم النخبويين، وتلك هي المأساة الحقيقية والكارثة الكبرى، بل قد تبدو وكأنها الحالقة ليس من بعدها حاذقة.

ولعل الوعي والإدراك المنشودين أهون وأسهل وأسرع مع عموم الجماهير عن نخبة أو صفوة الجماهير التي تصر على يقينها بصحة تلك الأكاذيب، وبإصرارهم على أنهم على يقين تام يأبون الخوض فيه. وتبقى محاربة الفكر بالفكر وقدح الحقيقة بالحقيقة وإظهار المصداقية بالإثبات بالحجة البالغة والمصدر الموثوق به والدليل والبراهين، ولو بعد حين، وإن احتاج الأمر جهدا أكبر من النخبويين، الذين قد تشبه كشف عوراتهم الفكرية ومجافاتهم للحقيقة.

إلا أن التأخر في دحر ذلك ووأده في مكمنه باستباقية حصيفة هو أفضل سبل الحفاظ على المصداقية وردع الكذب في مأمنه على الواقع الافتراضي. وما أحوجنا ليس فقط لمحاربة الكذب، ولكن لمحاربة سبل تصديقه. وإذا صحت مقولة «آفة الأخبار رواتها»، فبما تأكيد يؤيد ذلك حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع». ومعناه أن كل نقال لكل ما يُقال، وأرجو ملاحظة كلمة «كل» وليس مجرد بعض مجتزأ قد يكون في الغالب خارج السياق وداخل سياق الكذب والافتراء والتضليل، دون تمحيص أو تدقيق، واقع لا محالة في شرك الكذب وشريك أصيل في الجريمة والذنب والإثم.

إذا لم يتم التأكد من صحة الخبر ومن مصادره الأساسية ومواقعها الرسمية، دون قص ولصق أو تلفيق لمصادر أخرى غير مؤكدة، يجب على المرء عدم نشره وتوزيعه وبثه حتى إلى أقرب المقربين له، تفاديا للوقوع في المحذور ووزر تحمل الضرر، بل وتضع نفسك والآخرين ضمن طائلة القوانين الصارمة. ومن نكد الدنيا والآخرة على المرء ليس أن يصدق ما يُقال له وحده، ولكن أن يرسله أو ينشره دون وعي أو إدراك أو حتى حذر إلى الآخرين.

في ختام هذا المقال، نجد أن الكذب لم يعد مجرد ظاهرة فردية، بل أصبح تحديا جماعيا يواجه المجتمعات في عصر المعلومات. إن القابلية المتزايدة لتصديق الأكاذيب تتطلب منا جميعا الوعي والحذر، وتفعيل أدوات التفكير النقدي. علينا أن نكون أكثر حرصا في اختيار المعلومات التي نتلقاها ونشاركها، وأن نسعى لتعزيز ثقافة المصداقية والشفافية.

فالمعركة ضد الكذب لا تقتصر على محاربة المعلومات الزائفة فحسب، بل تشمل أيضا التصدي لمسببات انتشارها. من خلال تعزيز التعليم ونشر الوعي، يمكننا بناء مجتمع قادر على التمييز بين الحقيقة والزيف. إذًا، لنبدأ جميعا في تحمل مسؤولياتنا ونكون حراسا للحقيقة في زمن التدفق المعلوماتي، لنضمن مستقبلا يتسم بالمصداقية والشفافية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق