الرجل الصامت... أناقة في زمن الضجيج

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الرجل الصامت... أناقة في زمن الضجيج, اليوم الخميس 3 يوليو 2025 01:19 صباحاً

الرجل الصامت ليس ذلك الذي يفتقد القدرة على التعبير أو التواصل، بل هو صاحب الرؤية الواسعة والفكر العميق، الذي يؤمن أن الأفعال أبلغ من الأقوال، وأن البناء الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج، إنه الرجل الذي يضع أسرته في قلبه ويجعل وطنه على كتفيه دون أن يتفاخر أو يطلب التصفيق.

الرجل الصامت هو الذي يعمل بتفانٍ، لا يسعى خلف الأضواء بل يجعل من صمته لغة مملوءة بالمعاني، ومن خطواته على الأرض بذورا تنمو لصالح أسرته ومجتمعه، هو ذلك الأب الذي يكدّ ليل نهار من أجل تأمين مستقبل أطفاله، وذلك الموظف أو العامل الذي يعطي كل ما عنده لوطنه دون انتظار شكر أو عرفان، وذلك الرئيس الذي يعمل لصالح شعبه بصمت وحكمة، والذي يُسَخِّر سلطته لا من أجل الظهور أو التفاخر بل من أجل البناء والإنجاز، وهو يدرك أن القيادة مسؤولية عظيمة، وأن الأفعال وحدها هي التي تصنع التاريخ.

الرجل الصامت هو من يبني بالحب والتضحيات دون أن يُشعر من حوله بحجم ما يقوم به، هو من يتقن فن الاستماع قبل الحديث ويحرص على الصالح العام ويؤدي دوره في صمت، هو رجل الميدان لا رجل التصريحات، تجد أثره في الشارع وفي المصانع وفي المؤسسات، لكنه لا يظهر كثيرا على الشاشات، ولطالما تغنى الشعراء بفضائل الصمت واعتبروه سمة من سمات الحكماء والعقلاء، فقال الشاعر إيليا أبو ماضي:
وإذا كان الكلامُ من فِضّة
فالسكوت المُهذّبُ من ذهب

والسعي الصامت لتحقيق الأهداف هو فعل الكبار، ومن كانت همته عظيمة لا يتسلى بالكلام بل يسعى بالفعل، وقال المتنبي:

وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام

ولقد وجد الأدباء في الرجل الصامت ملهما لأعمالهم وشخصيات رواياتهم، فيقول الأديب الفرنسي فيكتورهوغو "الصمت هو عنصر عظيم من عناصر القوة"، كما يقول الجاحظ "إذا تمّ العقل نقص الكلام"، وقديما في التراث العربي، كان الرجل الوقور الصامت مقدرا ومحبوبا؛ لأنه لا يتكلم إلا إذا كان في كلامه فائدة، ولا يعمل إلا إذا كان في عمله خير، إن هذا الرجل هو نقيض التبجح والخواء، وهو جوهر الإنسانية المتزنة.

حقيقة إن التاريخ مليء بأمثلة لأشخاص عظماء لم يكونوا خطباء مفوهين، بل عُرفوا بصمتهم وإخلاصهم، وإن هؤلاء، المهندس المصري حسن فتحي، الذي أعاد إحياء العمارة الطينية لخدمة الفقراء، دون صخب إعلامي بل من خلال تصميماته التي بقيت خالدة، وهذا الزعيم الهندي المهاتما غاندي الذي كان صمته أبلغ من الكلام، ففي كثير من المناسبات كان يختار الصمت كوسيلة للاحتجاج، وقد أحدث بذلك تأثيرا أكبر من الكلمات.

إن العمل الصادق لا يحتاج لمقدمات رنانة ولا لشعارات فارغة، بل يتطلب ضميرا حيا، ويدا مخلصة وصبرا لا يتوقف، والرجل الصامت هو من يمتلك هذه الصفات، فهو لا يضيع وقته في تبرير ما يفعل ولا يبحث عن المديح، بل يعتبر أن العمل الجيد يتحدث عن نفسه، وقد قيل "من كثر كلامه كثر خطؤه"، وهذا ما يجعل الرجل الصامت أقرب إلى الكمال؛ لأنه يختصر الطريق نحو النجاح بالفعل والإتقان لا بالتفاخر والادعاء.

وفي زمن تعالت فيه الأصوات وكثرت فيه الوعود، أصبح الرجل الصامت أشبه بجوهرة نادرة، فهو من يعمل بضمير، ويصمت عن الادعاء ويعطي بلا مقابل، هو النموذج الذي يجب أن يُحتذى به في زمن الاستعراض؛ لأن أفعاله تسبق أقواله وحضوره يترك أثرا طويل المدى، ولنعد للهدوء قيمته وللصمت وقاره وللعمل الصادق مكانته، فالرجل الصامت هو ذلك البطل الحقيقي الذي يبني أسرة قوية ووطنا شامخا بصمت يملؤه العطاء.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق