التنوير المسلح: تفكيك سردية الأخلاق في مشاريع التدخل الإقليمي

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
التنوير المسلح: تفكيك سردية الأخلاق في مشاريع التدخل الإقليمي, اليوم الاثنين 22 ديسمبر 2025 03:19 صباحاً


يشهد المجال السياسي في السنوات الأخيرة تصاعدا لخطابات لا تكتفي بتبرير الفعل السياسي بمنطق المصالح أو موازين القوى، إنما بتغليف المصالح الجيوسياسية بلغة فلسفية-أخلاقية، بحيث يتحول التدخل الإقليمي من ممارسة سياسية تخضع لمنطق المصالح والقانون الدولي إلى رسالة حضارية، وتعاد صياغة الهيمنة بوصفها واجبا أخلاقيا. هذه المقاربة ليست جديدة في تاريخ العلاقات الدولية بل رافقت معظم المشاريع التوسعية عبر العصور، إذ نادرا ما تحركت قوة خارج حدودها دون أن تنتج سردية أخلاقية تشرعن أفعالها وتخفي دوافعها الواقعية، بغض النظر عن قدرتها الفعلية على تحقيق ما تدعيه تلك السردية من قيم أو غايات.

يقوم هذا النمط من الخطاب على تبرير التدخلات غير المشروعة تحت لافتة التنوير وحماية الوعي، وهنا تكمن المعضلة الجوهرية: من منح أي طرف حق تنصيب نفسه قيما أخلاقيا ومعرفيا على مجتمعات بأكملها؟ فباسم «حماية الوعي» و«إنقاذ الإنسان من السرديات المظلمة» تمنح جهة واحدة امتياز تحديد ما هو عقلاني وما هو متطرف، وما يستحق الدعم وما يجب الإقصاء عنه. هذا ليس موقفا فلسفيا بقدر ما هو مطلب هيمنة يصاغ بلغة التنوير، إذ يتحول الطموح السياسي إلى واجب حضاري، فلا يبدو المشروع ساعيا إلى نفوذ إقليمي وهو أمر مشروع من حيث المبدأ في العلاقات الدولية، بل حامل رسالة إنقاذ للمنطقة من ذاتها. وبهذا التحويل الخطابي يفتح الباب لتجاوز حدود السيادة والشرعية الدولية، لأن الرسالة الأخلاقية، وفق هذا المنطق تقدم بوصفها أسمى من القانون وأعلى من السياسة.

هذا المنطق له سوابق واضحة في التاريخ السياسي العالمي. فقد برر الاستعمار الأوروبي توسعه تحت شعار «تمدين الشعوب المتوحشة» وحمل ما سمي «عبء الرجل الأبيض»، شرعنت الولايات المتحدة تدخلاتها الخارجية بخطاب نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، بينما سوغ الاتحاد السوفييتي توسعه بادعاء تحرير البروليتاريا وبناء العدالة الاجتماعية. تتبدل الشعارات والمرجعيات لكن البنية السردية تبقى واحدة: تحويل المصالح الجيوسياسية إلى رسالة أخلاقية شاملة تبرر كل شيء وتعفي صاحبها من المساءلة وتجرد الآخرين من حق الاعتراض.

غالبا ما يربط هذا النوع من المشاريع بما يسمى «الغايات الرشيدة»، في إيحاء بأن أفعالها، أيا كانت طبيعتها أو نتائجها، متجهة حتما نحو خير أسمى. غير أن السؤال المركزي في الفلسفة السياسية يظل معلقا: من يحدد الغاية؟ وبأي حق؟ ومن يراقب من يدعي احتكار الغاية الأخلاقية؟ الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب يسقط مفهوم «الغاية الواحدة المغلقة» على خصومه، فيصورهم أسرى أيديولوجيات مظلمة أو مشاريع أحادية، بينما يمنح نفسه غاية كونية شاملة تتسع لكل القيم الكبرى: حماية الإنسان، الكرامة، الوعي، العقل، التعايش، والأوطان. هذا التناقض يكشف أن أي مشروع يدعي احتكار الغاية الأخلاقية العليا ويصنف مخالفيه بوصفهم أعداء للوعي أو صانعي فوضى، هو في جوهره مشروع أحادي الغاية حتى لو ارتدى لباس الفلسفة والانفتاح. فحين يقدم بوصفه الغاية الصحيحة الوحيدة التي لا تقبل النقد أو المساءلة، ينتفي الفارق الجوهري بينه وبين الأيديولوجيات المتطرفة التي يدعي محاربتها، لأن كليهما يحتكر الحقيقة ويجرم الاختلاف.

تتجلى خطورة هذا الخطاب عندما يصل إلى ذروة شيطنة الخصم، فيختزل التطرف في المنطقة بأكملها في نص واحد أو تيار واحد أو شخصية بعينها، وكأن تعقيدات الصراعات والحروب والانهيارات الاجتماعية يمكن ردها إلى سبب فكري واحد. هذا الاختزال ليس بريئا، بل يخدم غاية محددة تتمثل في إلغاء السياسة لصالح أخلاق مسيسة. فبدل تحليل الصراعات بوصفها نتاجا لتداخل عوامل داخلية وخارجية، وصراع مصالح، ودفاعا عن الدولة أو الأمن أو السيادة، يعاد تعريفها كمعركة وجودية بين النور والظلام، والتنوير والجاهلية.

في هذا الإطار، يصبح أي طرف يعارض مشروعا إقليميا معينا متهما تلقائيا بالارتباط بالتطرف، حتى وإن كان فاعلا سياسيا شرعيا أو جزءا من نظام معترف به دوليا. وهكذا يلغى التعقيد السياسي والاجتماعي ويحول الخلاف السياسي الطبيعي إلى صراع أخلاقي مطلق، وهو المنطق ذاته الذي يقوم عليه الخطاب المتطرف الذي يزعم محاربته.

ولا يقف الأمر عند حدود الخطاب، بل يمتد إلى الممارسة الفعلية عندما يزعم أن الدور لا يقتصر على المواجهة الأمنية أو السياسية، بل يشمل إعادة هندسة المجتمعات وتفكيك المنظومات وإعادة تشكيل الوعي من الداخل. في هذه اللحظة يتحول الخطاب من تبرير فكري إلى تفويض سياسي مفتوح، تمارس باسمه تدخلات مباشرة في الشؤون الداخلية للدول. وفي التطبيق العملي، يعني ذلك دعم أطراف محلية على حساب حكومات معترف بها دوليا، والتأثير في العمليات السياسية والانتخابية، وتمويل فصائل مسلحة أو شبه مسلحة لإضعاف أطراف أخرى، وتغيير موازين القوى الداخلية تحت شعار الإصلاح أو التنوير. وقد شكلت بعض الساحات الإقليمية أمثلة واضحة على كيف ساهم هذا النمط من التدخل، بوصفه أحد عوامل المشهد لا سببه الوحيد، في تعميق الانقسام وإطالة أمد الصراع بدل تحقيق الاستقرار الموعود. والمفارقة أن هذه التدخلات كثيرا ما أنتجت مزيدا من الفوضى والعنف، وهو ما يتناقض جوهريا مع الخطاب الذي يقدم نفسه بوصفه مشروعا لمكافحة التطرف وبناء الاستقرار.

إن التمييز بين المشروع السياسي المشروع والتدخل الذي يتجاوز حدود الشرعية لا يحتاج إلى فلسفة معقدة، بل إلى معايير موضوعية واضحة يمكن قياس الممارسات السياسية في ضوئها. أولا: الامتثال للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فأي مشروع يدعي الإصلاح أو التنوير لكنه يخرق مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول أو يتجاوز قرارات مجلس الأمن والآليات الدولية المعترف بها، يفقد شرعيته مهما كانت مبرراته الأخلاقية. ثانيا: احترام السيادة الوطنية والتعامل مع الحكومات والمؤسسات المعترف بها دوليا، وليس مع فصائل أو أطراف بديلة يراد فرضها كممثل شرعي للشعوب، فالشرعية لا تمنح من طرف إقليمي بل من خلال آليات دولية ودستورية واضحة. ثالثا: الشفافية في الأهداف والوسائل، بحيث يعلن المشروع عن غاياته الحقيقية ولا يخفي طموحاته الجيوسياسية خلف شعارات فضفاضة عن الوعي والكرامة، ويكشف عن وسائل عمله ومصادر تمويله وشبكة علاقاته الإقليمية والدولية.

رابعا: قابلية المساءلة وعدم ادعاء العصمة الأخلاقية، فالمشروع الذي يرفض النقد ويعتبر كل مساءلة تشويها أو مؤامرة، ويضع نفسه في موقع الحكم الأخلاقي النهائي على المنطقة، هو في جوهره مشروع سلطوي مغلق حتى لو تحدث بلغة الانفتاح والتعددية. هذه المعايير ليست مثالية مستحيلة بل الحد الأدنى الذي يفصل بين الفعل السياسي المشروع حتى لو كان خاطئا أو فاشلا، وبين التدخل الذي يعيد إنتاج منطق الهيمنة والوصاية تحت أي مسمى كان.

وعندما تفكك مبررات هذا التجاوز على سيادة الدول وتطرح تساؤلات مشروعة حول نتائجه، تفعل استراتيجية خطابية مألوفة تقوم على نزع الشرعية عن النقد ذاته. فيعاد تعريف المساءلة بوصفها تشويها، ويصور النقد كجزء من مؤامرة ويختزل المجال العام في معادلة ثنائية: من ليس معنا فهو مع التطرف، ومن ينتقدنا يخدم الفوضى. هذه السمة ليست من سمات التفكير الفلسفي، بل من سمات الخطاب السلطوي المغلق الذي يحول القيم التي يدعي الدفاع عنها إلى أدوات لإسكات المخالفين. فأي مشروع إصلاحي أو تنموي أو تثقيفي جاد لا يخشى النقد بل يعتبره شرطا لتصحيح المسار وتطوير الأداء، لا تهديدا وجوديا له.

لو كانت هذه المشاريع العابرة للحدود، على اختلاف سياقاتها وفاعليها، تحمل حقا ما تدعيه من نوايا تنويرية، لكان المعيار الأبسط للحكم عليها هو نتائجها الملموسة: هل أسهمت في تعزيز الدولة الوطنية أم في تفكيكها؟ هل دعمت الشرعية والحلول السياسية أم قوضتهما؟ هل أدت إلى تراجع العنف والفوضى أم إلى إعادة إنتاجهما بأشكال جديدة؟ الواقع في كثير من الحالات يشير إلى نتائج معاكسة للخطاب المعلن، ما يطرح سؤالا أخلاقيا وسياسيا مشروعا حول الفجوة بين الادعاء والممارسة. فإذا كان هذا هو التنوير، فكيف يمكن التمييز بينه وبين أشكال أكثر مباشرة من التدمير؟

في المحصلة: ما نواجهه هو سردية تبريرية متكاملة تنتج مرجعية أخلاقية ومعرفية بلا تفويض شرعي، وتختزل الخصوم في أيديولوجيات مظلمة لتبرير استهدافهم، وتحول التنوير من قيمة إنسانية إلى أداة تدخل وهيمنة، وتجرم المساءلة بوصفها خدمة للتطرف. وهذه من أخطر أشكال المشاريع السياسية لأنها لا ترفع راية العنف الصريح بل تقنع بأن العنف فضيلة حين يمارس باسم الأخلاق، وأن التدخل واجب حين يصاغ بلغة التنوير وأن الهيمنة ضرورة حين تبرر بحماية الوعي. والتاريخ السياسي يعلمنا أن أخطر أشكال الاستعمار كان ذلك الذي جاء بلغة الحضارة، وأن أشد أنماط الاستبداد فتكا هو ذاك الذي ادعى تحرير الإنسان بينما كان يصادر حقه في الاختلاف والاختيار.

TurkiGoblan@

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق