في سيرة «صوت الزمن ونشيد السنين»

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في سيرة «صوت الزمن ونشيد السنين», اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025 06:07 مساءً

كانت الذائقة الفنية السعودية قصيدة في طور التشكّل، بين تكتكات الطّار والدف، وأنين الربابة، ونفس الناي. وكانت الألحان تتراوح بين أهازيج البحارة في الخليج والبحر الأحمر، وبين صوت رياح جبال السروات ورجع صداها في تهامة ونجد.

وكانت رياح تلك الألحان لا تهبّ إلا حاملة قصيدة عاشق نجدي أضناه السهر، أو آمال مولع هُجِر بين الحجون وغيلما ينتظر وصلا طال انتظاره.. أو أن تأتي حاملة أبيات بحّار يغرد للنوارس يستجديها الظهور على شواطئ الشوق.

وكان أهل الصنعة والطرب يتسقطون تلك القصائد والألحان النادرة والعزيزة للشدو بها في المحافل والمجالس، فيما كان الشعراء والملحنون يتفحصون الأصوات ويتفرسون الوجوه بحثا عن بلبل صاف الصوت، ليغرد ويشدو بألحانهم وقصائدهم. ولينوح ويبكي ويطلق الارتعاشات والآهات ونداءات الحب والفراق والشوق والجزع من سوداء قلبه ليستنهض بها أهل الوجد.

المهمة التي لم تتحقق حتى ذلك الوقت وتجتمع في أي من الفتيان الموسومين بالموهبة مع استثناءات قليلة كانت معتصم الناس وملاذهم انتظارا لرسول الشوق القادم.

وعلى حين غفلة، يخرج ذلك الفتى من محراب اعتكافه، وملاذه الذي كان فيه. الملاذ الذي لم يدر بخلده يوما أنه سيفارقه، والذي كان يدندن فيه لنفسه، دون أن يعي أن الناس كانت ترقب ما سيتنزل به عليهم. لكنه كان محاطا بسجية العباقرة، سجية التواضع التي جعلته يتوارى حتى عن نفسه، لا لعدم الإيمان برسالته الحتمية، لكن انتظارا للناموس الذي سيدفع به وسط المحفل الذي عقد انتظارا له.

وما هي إلا أيام، وما هي إلا أشهر، ثم سنوات تعقب أخرى، حتى فجّر الدنيا من حوله مذ أول لحظة يرتقي فيها المسرح ويتصدر المشاهد.. وهناك أطرب فأفرح حتى السكرة.. وشدا وأطلق الأنّات.. فأحزن وأبكى حد الشعور بالألم والفقد.

وكانت تلك اللحظات هي التي أخرجت الشعراء من أخبيتهم، فأظهرت لنا دايم السيف بين الرياح و«الأماكن»، وبدرا «فوق هام السحب»، وعبدالرحمن @abdulrahman في «البرواز». كما أعادت الملحنين من منافيهم، والناس من مضاربهم، إذ أيقنوا أن آيتهم التي انتظروها قد أصبحت ماثلة أمامهم مثل فجر صادق.

وكان، وهو الفطن المتدثر بالتواضع والشعور بجسامة المهمة، على يقين إذ رأى المشهد أنه ما عاد رسولا من تهامة لأهلها، بعد أن رأى رايات نجد ترفرف له، وبعد أن رأى البحارة من طرفي الجزيرة يلوّحون له بأشرعتهم.. يومها عرف أنه هبة أمة لا هبة مدينة أو بلد واحد.

أطلق عصا الترحال، من بادية إلى أخرى، ومن مدينة إلى مدينة، اعتلى عروش الطرب، فجلس له الملوك وأهل الرياسة، جذب العشاق والفرسان والمخذولين والمنهزمين أمام عواصف الشوق والحنين، جمع القلوب المكسورة بالحالمة، ووحد دموع الفرح والخيبة، حتى أضحى أنيسا للمهجورين في مخادع الوحدة، وصديقا للظافرين في معركة الوجد والوصل.

وكان أثناء تلك الانطلاقات والتجليات، يُقرن افتراء بآخرين من قبل محبي المقارنات والجدال، وكان هو مثل حصان أدهم قد أطلق «السكب» مغرقا من تركهم خلفه في نقع غبار حافريه.

ولقد ترحل وتغرب.. وسافر وأطال، فجال عواصم العالم، وجال خلفه عشاقه حتى أدمى التغرب قلبه وأعيا بدنه. وكْنت إذ ذّاك، وفي تلك السنة، وفي تلك الليلة من لياليه الخالدة التي تجلى فيها في «دانة الدنيا»، شاهدا على كلمة، بل على زفرة أخرجها من قلبه، إذ يقول «نتمنى إن شاء الله أن تكون حفلاتنا القادمة في بلدنا».. ويا لها من نبوءة، ويا لها من استجابة لمن كان يصدح بـ«يا مستجيب للداعي»، أن تتحول تلك الأمنية، وذلك الحلم إلى حقيقة في «رؤيا» أصبحت واقعا للحالمين جميعا بعد أن أعادتهم من أسفارهم وجمعت شتاتهم تحت أديم خيمة واحدة دافئة ينعمون فيها وسط مضاربهم وعزوتهم بعزة، بفضل حالم آخر وهمام لا يكلّ من هذه الرسالة.. سخّر لهم ما فاق أمنياتهم وأحلامهم بعد أن حُمّل تلك الرسالة النبيلة في بناء صرح الهوية الوجدانية لوطنه، إنه دون ريب تركي آل الشيخ.

وكيف لا أكتب اليوم عن هذا العلم الكبير الذي جعل عصرنا استثنائياً، فقد صاحبني صوته في طفولتي على مسجل نادر حينها.. كان على دراجتي الهوائية إذ أجوب بها الشوارع وأشرطته موزعة في جيبي ثوبي..، وفي شبابي وانطلاقاتي في حقيبة مختارة من الكاسيت في سيارتي الأولى على كورنيش عروس البحر، وفي عنفواني أتنقل معه من بلد إلى بلد ومن طور إلى طور.. في أحلامي وأفراحي وأحزاني.

اليوم، فارسنا، وهو في أوجّه، لا يكتب نهاية قصة لا يزال يتجلى فيها، ولكنه كتب بالفعل قصة جيل أسس وجدانه وذائقته بكلمات أصبحت قاموسا من الأخلاق والفروسية، والوفاء والنبالة، والفداء والإخلاص.. حتى أصبحت رسالة منّا نكتبها إلى «من يهمه أمرنا»...
إنه «أبو نورة».. متّعه الله بالصحة والعافية..

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق