نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مدينة تقرأ... فكيف لا تزدهر؟, اليوم الاثنين 4 أغسطس 2025 01:10 مساءً
إنه ليس مجرد معرض عابر للكتب، بل موعد مع الذات، موسم فرح خالص نتهيأ له كما نتهيأ لوليمة فكرية دسمة، نخطط له مسبقا، نُعد قوائمنا الطويلة، نحجز وقتنا، ونهيئ مزاجنا لاستقبال لحظات من التأمل والمتعة، نعيشها بين دفتي كتاب، أو في ممر دار نشر نحبها، نقف أمام رفوف الكتب كما يقف الهاوي في معرض للّوحات النادرة، ننتقي، نقلب، نكتشف، وربما نقع في حب عنوان دون سابق إنذار.
في ركن من المعرض، رأيتُ شابا يمسك بكتاب ويحاوره، وطفلا يبتسم لقصته الجديدة، وسيدة تتصفح بهدوء كتابا عن التربية، وفي لحظة، شعرت أن هذا المكان ليس مجرد معرض، بل هو بيت واسع، سقفه الحبر، وأرضه الورق، وأهله عشاق للمعرفة، قراء لا يشبههم أحد.
معرض الكتاب في طيبة يختلف، لأنه لا يقام في أي مكان، بل في مدينة احتضنت الوحي بعد مكة، وفي طرقاتها مشى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وبين نخيلها نضجت معاني السيرة، وتأسست أول وأعظم دولة للعلم والعدل، لذلك حين تحتضن طيبة الكتاب، كأنها تعيد للقراءة مقامها، وتهمس لزائريها: ما نزل الوحي إلا ليعلم، وما جاءت الرسالة إلا لتضيء العقول قبل أن تطهر القلوب.
ومهما تغيرت أدوات النشر، وتزاحمت شاشات العرض، سيبقى الكتاب الورقي له تلك الهيبة، وذلك الحضور النبيل الذي لا يشبه غيره، تقليب الصفحات، رائحة الورق، وملمس الغلاف، طقوس لا تُنسى، ومشاعر لا تنضب، وفي كل زيارة لمعرض الكتاب، أكتشف أني ما زلت تلميذا صغيرا في حضرة الكلمة، أنحني احتراما لكل من كتب بصدق، ولكل من قرأ بنية أن يتغير.
القراءة ليست هواية نخبوية، بل هي هوية إنسانية، وهي ليست عادة سلوكية آلية، بل هي حياة ثرية عميقة، وفي كل معرض كتاب، أشعر أننا لسنا مجرد زوار، بل أهل دار، نطوف على رفوف الناشرين ونعود وكل واحد منا يحمل في حقيبته ما يشبه خارطة جديدة لحياته القادمة.
ولعل أجمل ما في القراءة أنها تخرج الإنسان من ضيق اللحظة إلى سعة الفكرة، ففي زمن تتسارع فيه الأحداث، وتستبدل القناعات بنقرة، وتستهلك العقول كما تستهلك البطاريات، تبقى القراءة فعل مقاومة، مقاومة للتسطيح، للتكرار، للزيف، وكل قارئ جاد هو لبنة صلبة في مشروع بناء مجتمع مزدهر.
ويا من تقرأ كلماتي:
إن كنت تحمل في قلبك شغفا بالقراءة، فحافظ عليه كأنك تحمي كنزا ثمينا، وإن وجدت من يقرأ معك، فتمسك به كأنك تمسك بمرآة روحك، وإن كان لك معلم أو صديق يحب الكتاب مثلك، فاشكره، فإنك في زمن يسرف الناس فيه على هوامشه، وأنت ما زلت تعيش في عُمقه، فلتكن القراءة ملاذك ورفيقك وأسلوب حياتك.
في الختام كأن طيبة تذكرنا دائما أن العلم لا يكتمل إلا حين يتحول إلى عمل، وأن المعرفة وحدها لا تكفي إن لم تثمر خلقا وهداية، ففي طرقاتها ومجالسها وتاريخها ما يبعث على التفكير، وما يدفعنا لأن نكون قراء لا يكتفون بالحفظ، بل يبحثون ويتأملون ويسألون.
0 تعليق