نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الوطن: النص الذي لا يكتمل... كيف نكتب فصوله معا؟, اليوم الاثنين 22 سبتمبر 2025 08:05 مساءً
في لحظة من لحظات التأمل، يطل الوطن علينا لا بوصفه أرضا أو عَلَما أو نشيدا فحسب، بل بوصفه نصا مفتوحا لم يكتمل بعد، وطن يشبه كتابا ضخما موضوعا على طاولة التاريخ، تتناوب الأجيال على صفحاته، كل جيل يكتب فصلا، وكل فرد يترك سطرا، حتى تبدو الحكاية في النهاية نصا جماعيا تتداخل فيه الكلمات بالكد والأحلام والدموع والابتسامات.
الأجداد خطوا فصله الأول بمداد الصبر فوق أوراق الأرض التي زرعوها، فصارت الحقول سطورا خضراء تشهد عليهم، ثم جاء الآباء، فكتبوا فصولهم بعرق الجبين، بين حجارة البناء وأروقة المدارس، لتضاء الطرق وتفتح الأبواب للأمل، ونحن اليوم نكتب فصلنا بلغة جديدة، لغة العلم الذي يتسع، والتقنية التي تتطور، والابتكار الذي يفتح نوافذ المستقبل، وما يزال النص حيا، مفتوحا للأبناء والأحفاد ليواصلوا الكتابة بلغات لم تخترع بعد: لغة الذكاء الاصطناعي، لغة استكشاف الفضاء، أو لغة إبداع يولد من رحم الغد ليكمل ملحمة الوطن.
إن الوطنية ليست شعورا مجردا، بل مسؤولية تتجسد في تفاصيل يومية: حين يعلم المعلم طلابه حب المعرفة يضيف سطرا؛ حين يزرع المزارع نخلة جديدة يكتب فاصلة خضراء؛ حين يبتسم الجندي في موقعه وهو يحرس أرضه يضع نقطة مضيئة في النص، فالوطن كتاب يكتبه الناس جميعا بوعيهم وأفعالهم، لا بأقلامهم فقط.
ويقال في علوم النص إن النص الحي هو نص مفتوح، لا يكتمل إلا بإعادة قراءته وكتابته، والوطن كذلك: ماضٍ يلهمنا، حاضر نكتبه، ومستقبل ينتظر صياغته، وحين نقرأ الوطن بهذا المعنى، ندرك أنه ليس ذاكرة جامدة، بل نص نابض يتجدد بتجددنا، ويزدهر بثراء تنوعنا.
والوطن أيضا نص ثري بالصور والإيقاعات: الكرم استعاراته الباذخة، الإبداع صوره البلاغية، العلم منطقه الداخلي، العمل الجماعي إيقاعه المتناغم، وكلما اجتمعت هذه العناصر، خرج النص متينا، غنيا بالمعنى، مفعما بالحياة.
وجمال هذا النص الكبير لا يكمن في فصل واحد أو جملة منفردة، بل في تناغم الفصول جميعا: من حكايات الأجداد، إلى إنجازات الحاضر، إلى وعود المستقبل، وبهذا يصبح الوطن قصيدة لا تنضب، تتغذى من كل صوت يشارك في كتابتها، ومن كل فعل يتحول إلى كلمة مضيئة في نصه العظيم.
وفي اليوم الوطني لا نحتفل بتاريخ مضى فقط، بل نشارك في كتابة فصل جديد، هو فصل يعبر عنا وعن رؤيتنا وعن أحلامنا، ويضيف إلى النص الجماعي الذي بدأ منذ تأسيس هذا الكيان العظيم قبل ثلاثة قرون، وبذلك تكون كل لحظة وفاء، وكل ومضة إبداع، وكل بادرة عمل صادق، سطورا تبقى شاهدة على أننا كنا هنا، وأننا واصلنا الكتابة في كتاب الوطن بأيدٍ واثقة وقلوب محبة.
وفي مثل هذه الذكرى العظيمة، يبقى السؤال البسيط العميق: ما السطر الذي سنتركه نحن في كتاب الوطن؟ سؤال يذكرنا أن الوطن ليس شعارا جاهزا، بل نص حي نكتبه معا، وأن جماله سيظل في انفتاحه على أجيال متعاقبة تضيف إليه، حتى يظل نصا خالدا لا يغلق أبدا.
0 تعليق