الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود: الكلمة التي صنعت الوطن والدبلوماسية التي رسخت الحضور العالمي

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود: الكلمة التي صنعت الوطن والدبلوماسية التي رسخت الحضور العالمي, اليوم الاثنين 22 سبتمبر 2025 08:05 مساءً

في صفحات التاريخ الحديث، قل أن اجتمعت في قائد صفات رجل السيف والكلمة معا كما اجتمعت في الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - مؤسس المملكة العربية السعودية. فقد أدرك منذ فجر مشروعه التوحيدي أن الكلمة الصادقة والخطاب المؤثر لا يقل أثرهما عن القوة العسكرية، وأن قيادة الأمة تتطلب مزيجا من الشجاعة، والحكمة، والحنكة السياسية. واستطاع الملك عبدالعزيز أن يوحد الجزيرة العربية، ويضع أسس دولة حديثة قائمة على العدل، والدين، والأمن، مع حضور قوي في العلاقات الدولية.

من المصمك إلى تأسيس الدولة

في 15 يناير 1902م/5 شوال 1319هـ، دخل الملك عبدالعزيز قصر المصمك في الرياض، معلنا أن «الحكم لله ثم لعبدالعزيز». وفيها إعلان بجلاء للداخل والخارج عن هدفه في توحيد الصفوف، وتأكيد على استرجاع ملك آبائه ومضيه في إقامة دولة قائمة على العدل والدين. وشكلت هذه اللحظة تحولا جوهريا في مسيرة بناء الوطن، التي توجت لاحقا بتوحيد المملكة، ووضع اللبنات الأولى للدولة الحديثة التي نحتفل اليوم بذكرى تأسيسها، وكانت إعلانا لمشروع سياسي وديني يقوم على العدل ووحدة الصف. ومنذ تلك اللحظة، انطلقت مسيرة بناء الدولة السعودية الثالثة التي توجت بتوحيد أقاليم الجزيرة العربية وإعلان قيام المملكة العربية السعودية في 23 سبتمبر 1932م/21 جمادى الأولى 1351هـ، وهو اليوم الخالد في تاريخنا، والمتجذر في نفوسنا، اليوم الذي نحتفي به كل عام.

لقد كان اليوم الوطني تتويجا لعقود من الكفاح الذي قاده الملك عبدالعزيز لتوحيد أقاليم الجزيرة العربية تحت راية واحدة وقيادة واحدة، وفي مسيرة تحقيق ذلك أظهر الملك عبد العزيز قدرة ملحوظة في التعامل مع البيئة الداخلية المعقدة والتطورات الخارجية المتمثلة في الإمبريالية وفلسفتها. وأبرز ملامح قدرته تجلت في إفشال مخططات تقسيم الجزيرة العربية إلى كيانات صغيرة وتجاوز محاولات إبقاء التشظي القائم، إضافة إلى عزمه وإصراره في رحلة الكفاح الطويلة المليئة بالطموحات والإنجازات في سبيل توحيد الجزيرة العربية. وكان الملك عبدالعزيز يبني ويشكل الدبلوماسية السعودية في سياستها الخارجية بحنكة سياسية وبصيرة فذة تدفعها تحقيق مصالح واستقرار المملكة وشعبها، وهذه الخطوة لم تكن مجرد حدث سياسي، لكنها لحظة ميلاد دولة حديثة بهوية واضحة، وقيم متجذرة في الدين واللغة والتاريخ، ونهج راسخ في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية.

ولم يقتصر دور الملك عبدالعزيز على الانتصارات العسكرية، بل كان يعرف أن الدولة لا تقوم إلا على الثقة والصدق؛ ولهذا كان يتنقل بين القبائل والشيوخ ورجال الدين، يخاطبهم بلغة نجدية صافية وبسيطة، لغة محملة بمعان عميقة، ومن ذلك قوله - رحمه الله - «أنا وإياكم إخوان، الدين هو الرابط بيننا، والعدل أساس الحكم بيني وبينكم»، ما جعل الناس يلتفون حول مشروعه اقتناعا به لا رهبة أو خوف منه. وأقام جسورا من العلاقة المتينة بينه وبين مختلف القبائل متخذا وسائل عدة لتحقيق ذلك.

وهذه الكلمات البسيطة والصادقة التي خلدها التاريخ للملك عبدالعزيز كان لها أثر في توحيد مجتمع متفرق، وأسهمت في كسب ولاء الناس قبل أن يمتد حكمه إلى أراضي المملكة كلها.

موسم الحج: جسور التواصل الداخلي والخارجي

حرص الملك عبدالعزيز على استثمار موسم الحج، وجعله فرصة لعقد اللقاءات والتواصل مع زعماء القبائل والعلماء والزوار من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، مستمعا لمطالبهم، ومؤكدا في كلماته أمام الوفود - كما حصل في عام 1357هـ - أن الولاء لله والوطن، إضافة إلى تأكيده على خدمة الحجاج. وشكلت تلك اللقاءات قنوات دبلوماسية داخلية وخارجية، بث بواسطتها الملك عبدالعزيز رسائل سياسية تتجاوز حدود الجزيرة العربية، وأتاحت له توضيح رؤيته حول الوحدة والعدل وعنايته بالمسلمين.

وحرص على أن تكون كلماته بسيطة وواضحة، صادقة، بعيدة عن التعقيد والتصنع، وهو ما جعله قريبا من الناس محبوبا ومحترما من الجميع، سواء داخل المملكة أو في أوساط الزوار والمسؤولين الأجانب.

الحياد في الحروب ورؤيته الاستراتيجية

في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914–1918م/1332–1337هـ) رفض الملك الانخراط في صراعات القوى الكبرى، وفضل تثبيت أركان دولته، ورفض بعد الحرب الانضمام إلى عصبة الأمم، مدركا أنها أداة بيد المنتصرين لتشرعن الاستعمار ووعد بلفور.

وانتهج في الحرب العالمية الثانية (1939–1945م/1358–1364هـ) سياسة الحياد الواقعي، مطالبا الدول الكبرى - خاصة الولايات المتحدة - بالإنصاف في القضية الفلسطينية. وكل هذا يؤكد عمق رؤيته الاستراتيجية، وحرصه على تجنيب بلاد الحروب وتداعياتها.

اللقاء المفصلي مع الرئيس روزفلت

يعد لقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 14 فبراير 1945م/3 ربيع الأول 1364هـ «على متن طراد يو إس إس كوينسي» محطة مفصلية في الدبلوماسية السعودية؛ لأنها أرست أسس تحالف استراتيجي طويل الأمد، يقوم على ضمان أمن المملكة مقابل التعاون في مجال النفط. يضاف إلى ذلك أن هذا اللقاء أظهر فهمه العميق لدور النفط في السياسة الدولية وأنه أداة قوة استراتيجية بيد الدولة.

بناء المؤسسات الدبلوماسية والسفارات

أسس الملك عبدالعزيز مديرية الشؤون الخارجية عام 1926م/1345هـ، ثم في عام 1930م/1349هـ تحولت إلى وزارة الخارجية، وأسند إدارتها إلى ابنه الأمير فيصل - رحمه الله - لما عرف عنه من حنكة سياسية.

وتوسع العمل الدبلوماسي وشمل فتح عدة سفارات ومفوضيات، منها:

- لندن (1929م/1349هـ) برئاسة الشيخ حافظ وهبة.

- واشنطن (1942م/1361هـ) برئاسة الشيخ أسعد الفقيه.

- القاهرة (1947م/1366هـ) برئاسة الشيخ إبراهيم الفضل.

- دمشق (1944م/1363هـ) برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن زيد.

- باريس (1933م/1352هـ) برئاسة الأمير طلال بن عبدالعزيز لاحقا.

وقد أسهم هذا التطوير الدبلوماسي في جعل المملكة مؤثرا فاعلا في النظام الدولي، بعد أن كان الملك يتولى بنفسه المراسلات والتفاوض مع القوى الكبرى.

معاهدات الصداقة وترسيخ الشرعية الدولية

في إطار توسيع الشراكات ومد جسور العلاقات مع الدول والتعاون معها وقع الملك سلسلة من المعاهدات لحماية مصالح المملكة وتعزيز مكانتها الدولية، منها:

- بريطانيا (1927م/1345هـ)

- ألمانيا (1929م/1347هـ)

- فرنسا (1931م/1350هـ)

- تركيا، إيران، إيطاليا، أفغانستان، سوريا، لبنان، اليمن، مصر، العراق، الكويت، باكستان، الصين (1927–1951م/1345–1371هـ).

وكل هذه المعاهدات وغيرها تؤكد حضور المملكة ككيان مستقل وفاعل في المجتمع الدولي.

الدبلوماسية والسياسة الخارجية: شهادات المعاصرين والمستشرقين

التحولات المتسارعة التي أحدثها الملك عبدالعزيز على مستوى الداخل والخارج وفي المجالات كافة جعلت المعاصرين يصفونه بصفات عدة، ومنها أن أمين الريحاني وصفه بقوله «إن الرجل فيه أكبر من السلطان، صافي الذهن والوجدان، خلو من التصنع، عربي تجسدت فيه فضائل العرب»، ووصفه عباس محمود العقاد بأنه «بطل الأمة من الأمم، يجمع في شخصه صفاتها ومزاياها على أكمل وجه»، ووصفه خير الدين الزركلي بالكريم والمصلح، الذي بدأ الإصلاح قبل اكتشاف النفط وأكمله بعده.

وتحدث عنه النقيب البريطاني وليام إرفيان شكسبير، ووصفه بقوله «تحرك عبدالعزيز وطنية صادقة، وولاء لوطنه، ورغبة أكيدة في خدمة مواطنيه»، وأشاد ليزلي ماك لوغن بـ«ذكائه الهائل، بصيرته الفطرية، وقدرته على التأثير في من يلقاه». ولما تحدث عنه أليكسي فاسيلييف، وصفه بأنه شخصية بارزة، تحلى بالبسالة والمهارة في القيادة. وذكر جيرالد دي غوري أن «ابتسامته الرجولية، لهجته الواثقة، وقدرته على التأثير في مستمعيه مذهلة». وأكد د.إسماعيل السلامات دعم الملك الثابت للقضية الفلسطينية، ورفضه أي محاولات لفرض مصالح القوى الأجنبية على بلاده.

الأمم المتحدة والمشاركة الدولية

انضمت المملكة إلى الأمم المتحدة بعد التأكد من نص ميثاقها على حفظ السلم وحق تقرير المصير، لتصبح من الدول المؤسسة، وجعلها الملك منصة للدفاع عن قضايا العرب والمسلمين، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

الخلاصة والدروس المستفادة

أثبت الملك عبدالعزيز في مسيرته أن الكلمة الصادقة والخطابات المؤثر يمكن أن تكون سلاحا يوازي البندقية، وأن القيادة الفعالة تبنى على الصدق، والبساطة، والواقعية، والمبادئ الثابتة. يضاف إلى ذلك أن دبلوماسيته جمعت بين الحذر في التعامل مع القوى الكبرى، والفاعلية في نصرة القضايا العربية والإسلامية، ما جعل المملكة دولة موحدة، مستقرة، وذات حضور عالمي.

اليوم، ونحن نحتفي بيومنا الوطني الخالد، تظل تجربة الملك عبدالعزيز مدرسة سياسية ودبلوماسية متكاملة، تظهر أن القيادة الحقيقية تبدأ بالكلمة، ثم تصان بالفعل، لتكون منارة للأجيال في فهم الوطنية، والسيادة، والشرعية الدولية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق